يوم أقفل العميد شامل روكز (غير المتقاعد يومذاك) خطّه في معركة عسكرية مصيريّة لِيمَ من بعض الجهات على فعلته وربما نُعِت «بالمتمرّد» على قرارات قائده. حصل ما حصل يومها وأعيد فتح الخطوط. هرب من هرب ونجا من نجا وسُجِن من سُجِن وأطلِق من أطلِق وقتِل من قُتِل. في حينها كان قائد الجيش جان قهوجي يستعدّ الى قرارٍ سياسي من نوعٍ آخر، قرارٍ يحمله على بساط «الأمر الواقع» من اليرزة الى بعبدا.
كان اسمُ الرجل لامعًا في بورصة الأسماء المرشّحة للرئاسة رغم اعتراض الفريق المسيحي الأكبر عليه، وعدول حزب الله عن نظرته اليه كـ»قائد مطيع» وهو الذي كان متهمًا بأن أوامره يأخذها من حزب الله لا من وزارة الدفاع وعلى رأسها سمير مقبل في حينها، ومن القيادة العليا للقوات المسلحة وعلى رأسها ميشال سليمان في حينها. تؤلمنا دفاتر الماضي، لدرجة أن اللبناني ما عاد هاويًا لفتحها وما عاد مجيدًا للعبة الـ Before-After الجذابة في المظهر العام، ولكن هذه المرة يبدو طيّ الصفحة بمثابة جريمة ثانية في حقّ الدولة أولًا، والجيش ثانيًا كمؤسسة، وأهالي العسكريين الشهداء ثالثًا.
محكمة شعبيّة
قد لا تكون المحاسبة التي يطالب بها الشعبُ بلا استثناء على تشعُّب مشاربه سوى تعويضٍ عن رأس «داعشيٍّ» مقطوع لم يصل الى يد أمٍِّ شهيد ذبحه الإرهاب بدمٍ بارد لا بل بلا دم. قد تكون المحاسبة بمثابة محكمةٍ شعبية، محكمةٍ ارتآها الشعب يوم تناستها الدولة لأنّ وجوهًا في حاضرها وأمسها هي نفسها كانت شريكة في القرار السياسي يومذاك. قد لا تكون المحاسبة سوى إشارةٍ بسيطة الى أن على الأرض عدالةً أيضًا، لا تشبه العدالة التي لم تبتّ بعد في قاتل الجيش اللبناني في عبرا، والمختال اليوم بين محاكمنا «شيخًا» يمرض حينًا ويرجئ أحيانًا ويستقوي موكلوه على أهالٍ ينتظرون في الخارج حكمًا قضائيًا عادلًا. قد لا تكون المحاسبة سوى «صفعةٍ» معنوية وأغلب الظنّ لن تكون إجرائية تنفيذيّة لأن وراء كلّ مذنبٍ داعمًا
وظهيرًا سياسيًا. صفعة معنوية لمن أقفل خطّه يومذاك وصمّ أذنيه عن أنين الأهالي وأغمض عينيه عن وجوههم اليائسة الباحثة عن نطفة أمل، عن نظرة تفاؤل، عن وعدٍ شهمٍ لم يأتِهم لا من قائدٍ ولا من رئيس ولا من وزير ولا حتى من موفد مسؤول.
... ويكثر السلاخون
على قاعدة «تقع الضحية ويكثر سلاخوها» ينفض كلُّ شاعرٍ بالذنب المسؤولية عنه ويرميها في ملعب شريكٍ آخر كان يغازله على الطاولة الحكومية نفسها منذ أقلّ من سنة. يخرج وزير الدفاع السابق سمير مقبل ليشهد على صخبٍ أمام منزله وليغسل يديه بذريعة أن القرار السياسي يومها اتخذه جميع المشاركين في الحكومة وليس هو وحده. يخرج ابنُ القائد السابق جان قهوجي ليرفض تحميل والده المسؤولية وهو الذي كان مكبلًا بقرارٍ حكومي جامع. يخرج وزير الاتصالات السابق بطرس حرب ليقلب الطاولة على الفرضيّتين وليؤكد أن القرار السياسي بعدم تحرير الجنود في العام 2014 اتخذ بناء لنصيحة قائد الجيش منعًا لسقوط 1000 قتيل. والى هذه النظرية مع فارق في الأرقام وافاه وزير الاتصالات الحالي جمال الجراح بتشديده على أن العماد قهوجي أجابه يوم سأله عن تقديراته لتكلفة العملية العسكرية يومذاك بأنها قد تُسقط 500 شهيد من المدنيين و130 من العسكريين».
على جراحهم نسير...
لم تعد العواطف تجدي نفعًا ولا المقارنة بين عهدَي الميشالين في محلها وكأني بنا نسير على جراح أهالٍ لم يدفنوا بعد ما بقي من رائحة أبنائهم. وكأني بنا نتخذ من المزايدة سبيلًا لتسويغ تلك الفعلة السوداء وللردّ على الساخرين فايسبوكيًا من «الباصات المكيّفة» ومن ترفيه «الداعشيين» العائدين الى سورية فيما يعود أبناؤنا بنعوشٍ باردة برودة الرحيل لا التكييف. ربّما لا حاجة الى استعادة سيناريو العام 2004، ربما لا حاجة الى شكر زعيم على استعادة الجثث ولوم آخر على ترحيل الإرهابيين لأسبابٍ منهم من تقبلها وفهمها من الجمهور اللبناني الواثق بخيارات اللواء عباس ابراهيم ومنهم من لم يهضمها بعدما رمق بحزنٍ مشهديّتَي العودتين المتفاوتتين بين جنودٍ أبرار وإرهابيين وحوش. ومع ذلك، وغرقًا في العواطف قبل الانتقال الى العقلانية التي لا يجب أن ننتظرها من أهالي الشهداء ومع ذلك لمسناها منهم، لا بدّ من أن يعود كلُّ متواطئ الى منزله مطأطأ الرأس. لا عليه من الخجل، فليحسب أنه ينحني
لرئيس دولة زائر أو لزعيم أهمّ منه، فليطأطئ رأسه وليقف عوض دقيقة صمت دهرَ صمت عساه ينهل من حكاية الضمير الغائبة تلك عزاءً عندما يستدرك أن أمهاتٍ وآباء على بعد ساعاتٍ يدفنون في التراب رمادًا شريفًا.
حاجة الى العقلانية
لا حاجة الى كلّ تلك العواطف التي منها الكثير. الحاجة الى العقلانية في هذا الوقت بالذات ضرورية. فإن أراد العهد أن يستحقّ أي مقارنةٍ لصالحه مع سلفه الساقط سياسيًا وعسكريًا (أقله في هذه القضية) عليه أن يسائل، يقاصص، ينتقم لعسكره ولو لمرّةٍ واحدة... عليه أن يجرؤ على كلّ ذلك كي لا تبقى خوذة الشرف الجريحة جريحة وطاسة المحاسبة الضائعة ضائعة!